يا خَيَالًا يَجُوبُ في الأَرجاءِ *** وَفُؤادًا يَحِنُّ لِلأَوفياءِ
هِزَّةُ الوَجْدِ تَعْتَلي قَسَماتِي *** كُلَّما ضَاءَ طَيفُهمْ في خَفَائي
وَرُخَاءُ الدُّموعِ يوقِظُ حُبِّي *** عندما يَسْتكينُ في الإبطاءِ
حَرِّكيهِ عَواصِفَ الشَّوقِ وامْضِي *** فَلعَلَّ الحراكَ دَفْقُ العَطاءِ
رُبما يَخْسَرُ السُّعَاةُ ولكنْ *** هل رَقى المستكينُ للْجَوْزاءِ
نامَ والْعَينُ أسدَلتْ هُدُبًا بع *** دَ الضُّحى كَي تعيشَ في الظَّلماءِ
إنَّما العينُ في أنيسِ الْمُنى نُو *** رٌ عَلا دَمْعَهَا بَريقُ الذَّكاءِ
تَستقي مِنْ تُراثِنا قَطراتٍ *** لِتُزيلَ الشِّعابَ بالإستواءِ
لَمْلِمِ الرَّملَ والحصى من ديارٍ *** سَعِدَتْ بالرَّبيعِ والأضْواءِ
وَاقرأ الرَّسمَ في خُدودِ بِطاحٍ *** وَطِئَتْها قوائمُ الْقَصْواءِ
ثمَّ سَلْها وضَوْءُها في ذُراها *** عنْ زَوالِ الدُّجى وليلِ الشَّقاءِ
وَاسمعِ الشَّرحَ دونَ سَبقِ كلامٍ *** مِنْ بَليغٍ يُنْبئكَ عنْ أشياءِ
أو تطاولْ لِتشهَدَ الغارَ يَزهو *** بِمُقَامِ النَّبي عندَ حِرَاءِ
وَأعدْ يا خَيالُ جبريلُ آتٍ *** يُقرئُ المُصطَفى كتابَ السَّماءِ
شِرعةٌ أُنزلتْ ووَحيٌ ونُورٌ *** وفؤادُ البشيرِ في إصْغاءِ
فَتسامى الضِّياءُ فوقَ الرَّوابي *** وَسناهُ بمكةَ الزَّهراءِ
ظَهَرَ المُصطفى بخيرِ كتابٍ *** ينشرُ الحُبَّ في نُهى الأحياءِ
يُعلنُ الهَدْيَ قبلَ فَوتِ أَوانٍ *** سابقًا شرعةَ الهوى باعْتِلاءِ
ويُنادي العِطاشَ حتى ينالوا *** مَنْهلًا منْ سُلافةِ الأصفياءِ
حَمَلَ العبءَ في ثباتٍ وعَزمٍ *** والقَويُّ الأمينُ للأعباءِ
هي ذي منحةُ الإلهِ تعالى *** يَهَبُ المخلصينَ حَملَ اللواءِ
زَفَّ بُشرى السَّماءِ حَالًا ببشرٍ *** ودَعا بالصَّفا نُهى الأقرباءِ
كُسيتْ أوجُهُ الطُّغاةِ سوادًا *** حِينما أُخبروا بِوَحْيِ السَّماءِ
حَنَقٌ في حَشَا أَبي لهبٍ يَغْ *** لي وزَوجُ اللئيمِ كالرَّقطاءِ
تنفثُ السُّمَّ ناقعًا في عِنادٍ *** شفَّ عن حَاسدٍ بلا استحياءِ
هكذا يكشِفُ الزمانُ أناسًا *** خَضَعُوا للزَّعامةِ العمياءِ
يُؤثرونَ الهَوى ولو كانَ نارًا *** والشَّقيُّ الرَّهينُ للأدعياءِ
أينَ مَنْ يَسمَعُ الهُدى بِفؤادٍ *** لِيميزَ الخَبيثَ دونَ غَباءِ
نصَّبوا اللاتَ في القلوبِ إلهًا *** وكَسوْهُ بِهالةِ الكبرياءِ
وَانْحنوا رُكَّعًا على صَنمِ العُز *** زى يَميلونَ سُجدًا بالثَّناءِ
تلكمُ شرعةُ الضَّلالِ وإبلي *** سُ زَعيمُ الشَّرائعِ العَمياءِ
بَاطِلٌ أَوْصَدَ النَّوافذ بالقس *** رِ ونورٌ يدورُ في الأحياءِ
كُلَّما أوقَدُوا اللَّظى في قلوبٍ *** صَبَرَ المخلصونَ رَغْمَ البلاءِ
بَذَلُوا السَّيفَ في رِقَابِ شُيوخٍ *** وَعَبيدٍ تَسَابَقُوا للوَلاءِ
أَتْبَعُوا مَنْ سَعَى لِربٍّ رَحيمٍ *** كُلَّ خَسْفٍ عَلى لَظَى الرَّمضَاءِ
وَالرَّسُولُ الكَريمُ نَادَى بِصَبرٍ *** لَكُمُ الفَوزُ يا رجَالَ الفِدَاءِ
مَا أُمِرنَا شبابَنا بِقتالٍ *** ما لنا غَيرُ حكمةِ الحُكَماءِ
لَيسَ أقوى مِنَ العقيدةِ تَرسُو *** في دِمَاءِ الهُداةِ والشُّهدَاءِ
قَصَدَ المسلمونَ أرضَ النَّجَاشي *** رَيثَمَا اللَّيلُ يَنجَلي عَنْ سَناءِ
بَارَك اللهُ بالوُفودِ إلينا *** شِرْعَةُ الحَقِّ وحدةٌ في البِنَاءِ
هذه الأرضُ رَحمةٌ لِضِعَافٍ *** لَنْ تَعُودي قريشُ بِالضُّعفاءِ
نورُ عِيسى وَهَدْيُ أحمدَ وَحيٌ *** أُنزِلا مِنْ مَرَاتبِ العَلياءِ
وَتَوالى الحَبيبُ يُبْلِغُ وَحْيًا *** رَغْمَ عُنفِ النَّكالِ وَالإيذَاءِ
وَبَدَا للرَّسُولِ طَيفُ ثَقِيفٍ *** عَلَّ فيهَا أصالةَ الكرماءِ
فَإذا الشَّرُّ قَدْ ثَوى في ذُرَاهَا *** وَنَمَا البُخلُ في ثَرى البُخَلاءِ
هكذا يُكْرَمُ الرَّسولُ بِدَارٍ *** عَادَ مِنهَا مُضرَّجًا بِالدِّماءِ
نَضَبَ الدَّمعُ مِنْ مَآقي قُسَاةٍ *** وَارْتَدَى القَلبُ مِعْطَفَ الكُبراءِ
فَشَكَا ضَعْفَهُ إلى اللهِ يَرْجُو *** قوةَ العَزْمِ في هُدى الخُلفَاءِ
وَتَنَادَتْ قُريشُ بالنَّدْوةِ الغَد *** رَ وَحَاكُوا المَصيرَ في الظَّلماءِ
وَنَبيُّ الهُدى يُنَاجِي بِفَيضٍ *** بِدُعَاءِ المتابِ للأشقياءِ
وَإِذَا جِبريلُ الأمينُ رَقِيبٌ *** يَكشِفُ الغَدْرَ رغمَ عُمقِ الخَفَاءِ
يَا رَسولَ السَّلامِ إنَّ جُفاةً *** نَذَرُوا خَنْقَ النُّورِ قَبلَ الضِّياءِ
فَاسْتَجَابَ النَّبيُّ للأمرِ لَمَّا *** حَانَ وقتُ الرَّحيلِ والإسراءِ
فَتَلا في الدُّعَاءِ يَاسينَ حَتَّى *** قَالَ شَاهَتْ وُجوهُهمْ بِالْعَمَاءِ
فَإذا النَّومُ مُحْكَمٌ في جُفُونٍ *** وَإذا القَلبُ مُطْلَقٌ فِي العَنَاءِ
وَأَتَى مَسْكَنَ الرَّفِيقِ أبي بَك *** رٍ يَزُفُّ الرَّحيلَ للأُمَنَاءِ
وَعَتيقٌ كلامُهُ الدَّمعُ فَيضٌ *** وَالرِّضا في فُؤادهِ البكَّاءِ
صُحبةُ المُصطفى دَليلُ وَفَاءٍ *** بَاركَ الله صَبيحةَ الأوفياءِ
فَإذا الغَارُ باسمًا يَفتحُ القل *** بَ أَمانًا لِسَيِّدِ الأنبياءِ
وَغَدا العَنكبوتُ مِنْ أوهَنِ الخي *** طِ يُقِيمُ الحصونَ للأصدقاءِ
وَالحَمامُ الوَدِيعُ لولا حَبيبٌ *** يُفْتَدَى لابتغَى سَبيلَ الجفاءِ
وَانبرَى المشركونَ بعدَ مُقَامٍ *** في جُنونٍ لِبَيتهِ للقضَاءِ
دَخَلوا البابَ بَعدَ أَنْ نَفِذَ الصَّب *** رُ وَهَزُّوا السُّيوفَ فَوقَ الرِّداءِ
وَعَليٌّ مَكانَ أحمدَ يَغْفُو *** قَدْ تَسَجَّى بالبُردةِ الخَضراءِ
يَفْتَدي أحمدَ الحَبيبَ بِرُوحٍ *** رَضَعَتْ مَنْبعَ التُّقى وَالوَفَاءِ
قَدْ تُقِيمُ الدِّماءُ حُسنَ رِبَاطٍ *** وَكَذَا الأرضُ مِنْ قَبيلِ الحَياءِ
إنَّما إثرَةُ العَقِيدَةِ أقْوى *** فَنِدَاءُ القُلوبِ أحلى النِّداءِ
وَقَفَ المُصطفى على الغَارِ يَرْثِي *** مَكَّةَ العُمرِ والصِّبا وَالعَطاءِ
أنتِ يَا مكَّةُ الَحبيبةُ قَلبي *** أَهلكِ البادئونَ بالبغضَاءِ
أَرْحَلُ اليومَ بعدَ عَيشٍ مَديدٍ *** فَعَزَائي رسالةُ الحُنفَاءِ
كيفَ يُضحي الحَبيبُ بعدَ رَحيلٍ *** مِنْ دِيارٍ قسَتْ عَلى الأبنَاءِ
يَذكُرُ الغارَ والأنيسَ وصَحبًا *** وَدِماءً جَرَتْ عَلى الرَّمضاءِ
فَإذا الصَّحبُ قَدْ غَدَوا في شَتَاتٍ *** تَركُوا دَارَهمْ إلى السُّفهاءِ
غَادَروا مَكَّةَ الكَريمةَ سِرًّا *** ثُمَّ هامُوا لَيْلاتِهِمْ في العَراءِ
حَمَلُوا مَنْهَج الرَّسولِ بِصَدْرٍ *** مُفْعَمٍ بالعَقِدةِ الغَرَّاءِ
وَشَروا دينَهُمْ بِكلِّ نَفيسٍ *** وَاستَعَدُّوا لأجلهِ لِلفدَاءِ
وَمَطايا الرَّحيلِ سَارتْ خِفافًا *** تَنهبُ الأرضَ في الدُّجى كالظَّباءِ
وَصلَ المُصطفى مَشَارِفَ عِزٍّ *** فَسَرى النُّورُ قَبلهُ في جلاءِ
يَحملُ الخَيرَ في أَصيلِ نَهَارٍ *** فَإذا أنصارُ الهُدى بانتشاءِ
وَإذا القَلبُ في صُدورِ المحبي *** نَ مُقِيمٌ عَلى أساسِ الوَلاءِ
هَلَّلوا والرُّبا تُرجَّعُ صَوتًا *** طلعَ البَدرُ في بلادِ الإباءِ
وَجَبَ الشُّكرُ يا بلادُ تُغَنِّي *** إِنَّ أحلى اللقاءِ عَذبُ الغناءِ
وَأَقامَ النَّبيُّ جمعَ صلاةٍ *** ضمَّهُمْ مسجدُ التُّقى بِقُباءِ
حَبَّذا نَفحةٌ تَطُوفُ بِنَفسٍ *** كَي تَرى مَوكبًا مِنَ الصُّلحَاءِ
قائِدٌ ثَبَّتَ السَّلامَ وأرسَى *** نبتةَ الدِّينِ فَارتقَتْ بِالنَّماءِ
كانَ منْ غَرسهَا كِبارُ هُداةٍ *** نَشَروا الدِّينَ في الرُّبا الشَّمَّاءِ
عَمَّروا البيتَ بالصَّلاةِ فَأضحوا *** صُوَرًا للمَلائِكِ الأَتقِياءِ
إِنَّما يَعْمرُ المسَاجدَ مَنْ آ *** منَ باللهِ رَاضيًا بالقَضَاءِ
يَا خَيالًا يَطُوفُ في الأرجَاءِ *** أَعْطِني عِبْرَةً مِنَ الصَّحراءِ
كِدْتُ أغفو عَنِ البُطُولَةِ يَومًا *** لا تَدعني أَمِيلُ لِلإغفَاءِ
الكاتب: د. محمد منير الجنباز.
المصدر: موقع الألوكة.